كانت السماء تتعرى من الوهم حين استيقظت من سكرة الكرى، وودعت أحلامي وهواجسي، ولكن لماذا تجذبني حقيقة من أعمق نقطة في كياني وتصرخ في قائلة: هيا ودعي ثوب الوهم وأفيقي على جوهر الحقيقة. فنفسك ليست سوى صخرة تسد ينبوع المعاني، عبثا تظنين أنك أدركت ماهية الجمال الروحي. نفسك يغشاها الوهم ويكسوها الظلام ، فأفيقي واكتبي سطور الصباح .
استعدت وقائع الحلم الشاعري الذي باغتني فجرا وأفقت على وقعه، استرجعت تفاصيل الحلم وأنا أعتلي قمة الجبل لتأتيني الطيور مترنمة وتفرش لي أجنحتها وتدثرني، وتطربني بشدوها، فأرسم صور الجمال على أجنحتها، لتحلق بي إلى حيث مكان بكر. تتركني الطيور إلى حيث ينفتح السبيل وتمضي. أرنو لللافتة أمامي وقد كتب عليها بحروف كبيرة تحاكي ما يخطه طفل على لوحة وهو يتعلم رسم الحروف كلمة الحرية .
أعيد النظر إلى لافتة الحرية المرسومة بخط طفولي.. فتعود بي الذاكرة إلى كتبي وكراساتي، أستشف طعم البداية المنبلجة من اللغات المحنطة.. فقد علمني المدرس رسم الحروف ولم يعلمني معاني الحرية.. علمني القواعد والقوافي ولم يعلمني أبجديات الروح .. فرش على السبورة سجلات المعرفة ولم يعبر عن أعماق الإنسان . علمني كل الضمائر ولم يعلمني لغة الأنا الطليقة ... لقد قيد روحي وبعثر كلماتي وسد باب أسئلتي .. وسد نوافذ قلبي النابضة بالعشق .
أهداني النسيم نسماته العذبة.. فقررت أن أكتشف المكان، وناشدت الراحة بين الأشجار المتمايلة على إيقاع النسيم في حقول النور، تدفقت بين أصابعي ثمار شجرة كنخلة تكرمني بالتمر .. انجلت لي العذراء وهي تمد كفها للنور ، فانجلى الكمون واستحال إلى لغة جميلة في ذلك المهد الحالم ، وفتح الظلام أزراره لينبري الظلام الساكن في الآفاق يغزل من خيوط الشمس كلمات للزمن الموعود .. ومن فرط العشق الذي انتابني في حقول النور أينعت ثمرة مزركشة بالحروف . تجاوزت حالة الذهول .. وقرأت أبجديات الولادة .. فقد احتضرت كل اللغات وولدت لغة الأنا .. وفي الحال انبرت أمامي إمرأة ترسم أبناءها بأشعة الشمس . قالت : أراك تبحثين عن جذور الجمال ، ترسمين أجنحة الطير .. وتسقينها بماء المطر .. وترشينها بماء الزهر .. فتستحيل سكرى أقلامك ويتضمخ بالنشوة وجدانك .. لكنني ألمح في نسيج صورك وردة في أرض مبللة.. امتزج شذاها بعبير الطين .. فثملت الروح واستيقظ الإحساس... تذكرت تلك الوردة التي رسمتها أناملي وباركها المطر فاستنشقت الرياحين الممطرة بالشذى . لقد انجلت متوهجة في مرافئ الحرية .
فتحت شباك الغرفة. سطعت الشمس على بلور النافذة وكأن المطر لم يهطل بغزارة طيلة الليل فانتشيت بعطر التراب في الأجواء التي كانت حبلى بالمطر . تذكرت ذلك الشعور الذي كان يباغتني أيام طفولتي كلما انتشيت بتلك الرائحة فأعود إلى كتبي أتصفحها ، وأطوي صفحاتها ، وأرصفها في الرفوف المتروكة وأتناول قلمي لأرسم كلماتي الدفينة . كنت أفصل بين الأوراق بالجفافات وأباعد بين كلمات الحب والحلم . وكم كان يغمرني شعاع الذكريات وأنا أستنشق ذلك الشعور وأنتشي .
الأفق لوحة مرسومة بألوان الصباح التي تفتح القريحة وتحفز على الجهد والحركة . لوحة تعج بالتدفق والسيلان .
عاودني الصوت: الأفق ابتهج، والعصافير غنت والثمار تراقصت . انظري إلى مشاهد الصباح كي تنفذي إلى منابع لم تدركها نفسك ، وكسري يقينك فهو خيال ضحل ، حطمي آمالك ، وامشي في الطريق البكر. الناس نائمون، ما زالوا يحلمون، يتخيلون ويتوهمون. وأنت تتجهين إلى خيوط النور رويدا رويدا...
ها أنك وصلت للنهر، لقد قادتك خطاك إلى الماء لتعكس لك ظلال صورتك. في ظلك ترين ذاتك كائنا مختلفا، يتموج حسب تدفق المياه، ستمتد صورتك وتصير نفسك شلالا... وصورتك التي حملتها معك ليست صامتة، بل مكسوة بالظلال... عبثا كنت تجترين كلام الأجداد بخشوع ، وتنسجين من البدع تراثا لك . ولكن هذه الأرض التي تخضبت بزخات المطر تعريك من تصوراتك . وتقول لك : فلتكوني اليوم مختلفة . إنسانة تعرف أنها كونت بمعدني وتكون بمعدني ، أنت كالطين المخضب اللين فتشكلي بحروف الصباح لتكتبي سطور إنسانيتك .
البارحة فكرت كثيرا، وسهرت إلى الفجر، وبقيت تراقبين السماء بعينين حائرتين، وبفكر شارد.. وأدركت انك وجه لوجه امام الحقيقة ، فلتتقبليها ، فهي من صنع الإنسان ، إنها تنبع من هذه الأنا الكامنة ... إنك تعيشين حدثا خاصا ، منصهرا في المعاني البكر التي تشبعت بها . وتبحثين عن عنصر يوازي لحظة الانبهار ....
أحسست أنني عدت إلى الوراء بل تقدمت إلى الأمام لأنني كنت أؤرخ لذاتي بمعاني ما قبل الولادة . ولما ولدت هذه اللحظات اليقينية تجاوزت اللا محدود السلبي وانطلقت من الصفر . وأخيرا حددت نقطة البداية في هذا الخط غير المحدود . وقلت : علي أن أتفحص كوني وأكون كائنا حرا كي أفك الرموز والخطوط المتشابكة ...
شعرت بالانطلاق ، وبقوة خفية تجذبني إلى منابع الالهام ، تخترق مساماتي وتحركني بطاقة هائلة ، فلم أجد في ذاتي غير صور الجمال ومعاني الفن ودروب الحرية ، حلقت ذاتي بعيدا ، بعيدا . وحطت على شاطئ بحر صاخب . ولكنه عكس لي مشاعر الطمأنينة والتوازن والأمان فمنيت براحة الضمير ، ولم استيقظ إلا على ايقاع الروح تناديني في هذا الصباح المشرق . فتحسست بريقها وانجذبت إليها تزركش النفس بشموع الحب وتوشحه بخشوع مقدس انصهر في خلجات الإحساس فاستحال إلى كوة نور تطل على الزمن الآخر ..
فكم أود أن أقطع مسافات الشوق ، لأنادي ظلال المعاني ، فأجدها قربي ترعى شعري وتبدد وحشتي علني أتلاشى في أعماق الجمال ، فأنتشي وأناجي الظل وأرسم الصورة ، بدون إحساس بالجمال أتهاوى من فرط الألم والتعب .. فأرسم جدولا تحط عليه العصافير وتنشد غناء الينابيع . وتسكب في روحي أنغام الماء والحياة ... تركت أحلامي على الفراش ، وأتيت الى النهر بثقلي وكآبتي وشجوني وصورتي ورموزي وخطوطي فنفضت حيرتي .....
ما أصعب أن يصدق القلب يقينه ، القلب كقثارة تعزف دون أوتار يصعب علينا اسكاتها .اذ لا تنفك عن امتاعنا بالموسيقى ، وحين يختفي عزفها ، يتسرب الى هاجس الوهم ويكسي الظلام الأفق . فليس أقسى على القلب من فوضى اليقين ... فهو كالأمواج الثائرة ، لا تعرف الاستقرار بل تجعلني أحلم بسعادة أجهل دروبها الآمنة .
وجهت بصري نحو النهر أبث له دواخلي وأنشد مواساته ، اذ ذاك لمحت خيال صورتي في الماء . وشعرت أن شخصا مختلفا يعيش داخلي لك أكن قادرة على فهمه وتحليله . ولكنني الآن أحل كل عقدي وحبكتها . وجدت نفسي كتابا مسطورا من العسير علي قراءته ، وفك رموزه المعقدة وطلاسمه الغامضة . فحين أتساءل من أنا تجيبني أنت من آمن ببعث الإنسان من فطرته الجميلة ، فهذه الطبيعة التي رسمتها في نفسك لوحات مثخنة بالحب ، مجسدة بالفن .. هي صورة تعبر وتتحرك وتكبر ، فيكبر الحب ويبعث أسرار الأنا ...
فهل يكفي أن أعيش ظلي وأقرأ معانيه الرائعة . هذا الظل حلم يسكن السماء ، لكنه يناديك ويغريك ولا يحطم سعيك ... هو الحلم الذي ينشد منك أن تكون طيفك ، طيفك كائن يؤمن بجدوى المعاني وشعاع الجسد . فظلك لا يعكس لك غير جسدك ، وروحك هي انصهار ثوابت ذاتك .. ذاتك كائن يتحرك ويكبر ليلا حين تعود إلى جسدك ، فيستحيل الى صورة ناطقة وصامتة ... فلألاحق الظلال ... إن الحوار مع الظلال يغريني ، ويفتح قريحتي على عوالم مجهولة ، تشع فيها الحياة وتحيلني الى خيالات رائعة وخلاقة ، ترسم الجمال وتلاحق أطيافه لإدراك صوره ... فوجدتني منصهرة في مشاهد الربى المتناثرة ، المترامية . وتمنيت أن أحصل على مرآة تعكس لي الجمال لأرسم صورا لا توازي الطبيعة روعة بل تفوقها .
تذوقت حياة الريف والمراعي ، تلك الحياة البسيطة التي يعيشها الرعاة والفلاحين . أحلام بكر لم تلاحقها الكوابيس ، لأنها مرجع أولي للجمال وصفاء السريرة ، إن الطبيعة لا تحجب صورها عن الانسان ، بل تبرز مفاتنها لتبهر مرآها ، فنكن لها حبا يورع كلمات الشعر ، فجمالها الظاهري يحرك الجمال الداخلي ... إنها لحظات الفن الخارقة ... فلنخلع تصوراتنا لنكاشف ذواتنا ، والكشف الطبيعي أول السبل ، إثر ذلك يستحيل الجمال إلى مجرد ظلال وتغيب الصور ، فنهتدي بنوره لرؤية صوره لنرسمها ونجسدها بعد تأمل الحبكة النفسية التي حيرتنا كثيرا . فنرسم روح اللغة وجسد المعاني ، ويستحيل الحلم إلى الطريق المؤدي للعوالم المجهولة ، عبره نرسم صورا واشخاصا وأحداثا .
فما أجدى أن يغتسل القلم في نهر النقاء ، ويتهادى على ضفافه ، وينتعش بالنسيم العليل . عنده تفتح الحقيقة أبوابها للحلم ، وتزين طرقها بالفل والجلنار . وترش في الهواء عطور الفن الجميل لتستقبل زائرة ابتهجت بالجمال الذي ينبعث من الروح . ينثر الحب على بساط القلب ، ويضيء الوجدان بنور الايحاء . إنه ذلك الإحساس المطرز بالجمال . شعرت أن النهر يهمس لي بألحان مياهه المتدفقة ، فما أروع أن تترنم الأرض بموسيقى النهر ، وتتزين ببسط العشب ، وتتزركش بالنوار وشقائق النعمان ، ما أروع أن تنبعث روائح العطور ، فأستنشق الهواء المخضب برحيق الزهور ، وأتنفس النسيم يدخل علي النشوة كالخمور ... الأرض تحتفل بعيدها ، وتبرز جمال مفاتنها ، وتفاصيل رونقها ، الأرض سكرى تختال كحورية تتباهى بعذوبتها وصفاءها ، وقد انعكست على وجهها خيوط شمس الربيع الأخاذة . الأرض تغري بسر الحياة ، وروعة الوجود وترسم آلاف اللوحات ليغوص الإنسان في ذاته ويشاهد أعماقه زاهية كبراءة الطفولة .
خاطبت نفسي بعد تركيز عميق أن قلبي حافظ على براءته لأنه يعشق الحياة، إنه أخضر بمعاني طفولتي التي ما زالت تسكنني وتدعوني للحفاظ على مشاعر الإنسان الرقيقة. سرت خطوات إلى الأمام وقد أحسست بإشراقة تضيئني وتغمرني بفيض من الجمال .